فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن هذا كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر. الثاني: أنَّ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} متعلقٌ بهادٍ، و{هادٍ} نَسَقٌ على مقدَّر، أي: إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم. وفي هذا الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوف بالجارِّ، وفيه خلافٌ تقدَّم. ولمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإِشكالَ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادًّا به على الزمخشري. الثالث: أنَّ هاديًا خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: إنما أنت منذرٌ، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ، ف {لكلِّ} متعلقٌ به أيضًا.
ووقف ابن كثير على {هادٍ} و: {وَاقٍ} [الرعد: 34] حيث وقعا، وعلى: {وَالٍ} [الرعد: 11] هنا و{باقٍ} في النخل بإثبات الياء، وحَذَفها الباقون. ونقل ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف بين الياءِ وحَذْفِها، والباب هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ.
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}
قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ}: يجوز في الجلالة وجهان، أحدُهما: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمر، أي: هو الله، وهذا على قول مَنْ فَسَّر هاديًا بأنه هو الله تعالى، فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله: وأن يكونَ المعنى: هو الله تفسيرًا لهادٍ على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: {يَعْلَم}. والثاني: أن الجلالةَ مبتدأ و{يَعْلَمُ} خبرُها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
قال الشيخ: ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ، إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات. قلت: وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً، وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى، وحَقَّقْتُه فيما تقدَّم، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال.
قوله: {مَا تَحْمِلُ}: {ما} تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن تكون موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوف، أي: ما تحمله. والثاني: أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ. والثالث: أن تكونَ استفهاميةً، وفي محلها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و{تحملُ} خبرُه، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ ب {تَحْمل} قاله أبو البقاء، وهو أوْلى، لأنه لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ عائدٍ، ولاسيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون زيدُ ضربْت، ولم يذكرِ الشيخُ غيرَ هذا، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ.
و{ما} في قوله: {وَمَا تَغِيضُ... وَمَا تَزْدَادُ} محتملةٌ للأوجهِ المتقدمة. وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما ولزومُهما، فلك أن تدَّعيَ حَذْفَ العائدِ على القول بتعدِّيهما، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما.
قوله: {عندَه} يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ، أو مرفوعَه صفةً ل {كل}، أو منصوبهَ لقوله: {بمقدار} أو ظرفًا للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ لوقوعِه خبرًا.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}
قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب}: يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبرُه: {الكبير المتعال}، وأن يكونَ خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هو عالِمٌ. وقرأ زيد بن عليّ {عالِمَ} نصبًا على المدح. ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء {المتعال} وصلًا ووقفًا، وهذا هو الأشهرُ في لسانهم، وحَذَفَها الباقون وصلًا ووقفًا لحَذْفِها في الرسم. واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن أل تعاقِبُ التنوين، فَحُذِفَتْ معها إجراءً لها مُجْراها. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 11):

قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال: {سواء منكم} أي في علمه: {من أسر القول} أي أخفى معناه في نفسه: {ومن جهر به} وفي علمه: {و} قدرته: {من هو مستخف} أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب: {باليل} في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة: {و} من هو: {سارب} أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة: {بالنهار} متجاهر بسروبه فيه، فالآية من الاحتباك: ذكر: {مستخف} أولًا دال على ضده ثانيًا، وذكر: {سارب} ثانيًا دال على ضده أو مثله أولًا: {له} أي لذلك المستخفي أو السارب- كما قاله ابن عباس- رضى الله عنهما-: {معقبات} أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلًا منه.
ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذرًا، قال آتيًا بالجار: {من بين يديه} أي من قدامه: {ومن خلفه} واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: {يحفظونه} أي في زعمه من كل شيء يخشاه: {من أمر الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعًا في الملك، ولاسيما إذا كان ذلك الجار ظانًا مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه، فقال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة والكمال كله: {لا يغير ما بقوم} أي خيرًا كان أوشرًا: {حتى يغيروا ما} أي الذي: {بأنفسهم} مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة.
ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالبًا من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفًا على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: {وإذا أراد الله} أي الذي له صفات الكمال: {بقوم} أي وإن كانوا في غاية القوة: {سوءًا فلا مرد له} من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان.
ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال: {وما لهم} وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: {من دون} وأعرق في النفي فقال: {من} ولما كان السياق ظاهرًا في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال: {وال} أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه. اهـ.

.قال الفخر:

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالمًا بكل المعلومات فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لفظ {سواء} يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان.
الأول: أن سواء مصدر والمعنى: ذو سواء كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل.
الثاني: أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها.
ولقائل أن يقول: بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
المسألة الثانية:
في المستخفي والسارب قولان:
القول الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر.
وقوله: {وَسَارِبٌ بالنهار}
قال الفراء والزجاج: ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه.
يقال: خلا له سربه، أي طريقه.
وقال الأزهري: تقول العرب سربت الإبل تسرب سربًا، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت، فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفيًا في الظلمات أو كان ظاهرًا في الطرقات، فعلم الله تعالى محيط بالكل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة.
وقال مجاهد: سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي.
والقول الثاني: نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال: المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته.
واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال: للداخل سربًا، والسرب الوحش إذا دخل في السرب أي في كناسة.
قال الواحدي: وهذا الوجه صحيح في اللغة، إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضًا فالليل يدل على الاستتار، والنهار على الظهور والانتشار.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}
اعلم أن الضمير من {له} عائد إلى من في قوله: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10] وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة، والمعنى: لله معقبات، وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} [التوبة: 90] والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
إذا عرفت هذا فنقول: في المراد بالمعقبات قولان.
الأول: وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس، وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب، وكل من عمل عملًا ثم عاد إليه فقد عقب، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار.
روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام: «ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرًا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب؟ فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثًا قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا، وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك، وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي، وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكًا على كل آدمي» وعنه صلى الله عليه وسلم: «يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» وهو المراد من قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] قيل: تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار، وقال ابن جريج: هو مثل قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات.